سهى بطرس قوجا
كان وما يزال رغم شعراتهِ البيض يعمل بجد ونشاط، عجوز تجاوز السبعين من عمره، يعمل بستاني في أحدى الحدائق، يزرعها ويُسقيها ويُنظفها ويُقلم الأشجار والزهور ويُنسقها، بدون ملل أو كلل، استغربت منهُ وأنا مارة بالقرب من تلك الحديقة، وتسألتْ؟! كيف يمكن لرجل عجوز أن يقوم بكل هذا الجهد طوال النهار؟! كيف تستطيع كهولتهِ أن تُقاوم؟!
توقفتْ أتأمل في عملهِ وتفننهِ، وكان أول ما وقع نظري عليهِ هي ابتسامتهِ! نعم، ابتسامتهِ، في كل عمل يبدأ به ويُنهيهِ، كان يبتسم كشعور من الرضا عن نفسهِ. تلك الابتسامة التي تتولد في أثناء لمسهِ لأزهار أو شجرة وبين ما يُمتعُّ نظرهُ من خضرتها وجمال روعتها، تلك الابتسامة الخارجة من الأعماق لكل ما هو بديعٌ في الطبيعة، كانت تمنحهُ القوة ليُبدع أكثر وأكثرَ، غير شاعرٍ بتعبٍ أو بتذمرٍ.
فالابتسامة ليست فقط جمالية الحياة بلْ والروح كذلك. وكثيرين يصفون الابتسامة كلٌ من مُنطلقهِ، البعض يقول أنها جسر للعلاقات الإنسانية، والبعض الآخر يقول أنها فن التواصل بين البشر، والبعض الآخر يُشبهها بالبلسم والدواء للقلوب وللنفوس، والبعض الآخر قال أن الابتسامة هي: السعادة، الأمل، الصداقة، الألم، البراءة، لغة المُحبين، جسر ورسالة للآخر، أجمل كلام صامت، أغنية بلحنٍ جميل، نور القلب، إشراقه الوجه، كنز لا يستطيع أي أحدٍ تملكهُ، وأيضًا ليس كل واحدٍ قادر على منحهِ للآخر .... الخ من الأوصاف، ومهما قلنْا فيها فلنْ نصل لمعانيها، فلا حدود لوصفها وقياسها.
والابتسامة تبقى الابتسامة التي كثيرا ما تحضرنْا ونحن جالسين لوحدنْا أو مع مجموعة، حينما يحضرنا كلام أو نتذكر موقف سواء كان مُفرحًا أو مُؤلمًا يحمل ذكريات أشخاص، أو ربما طيف من نحبّ زارَ مُخيلتنْا، أو ربما حديث مطروح يأخذنْا بعيداً بخيالنْا إلى أيام لا تعوض تحمل كل جميلاً، فنتذكرهُ ونبتسم ونشتاق، وتظهر تلك الابتسامة على الشفاه والعيون لتنير الوجه، وما أجملها من ابتسامةٍ صافيةٍ وحقيقةٍ خارجة من الأعماق.
فمُجمل جمال شخصية الإنسان تتكامل وتترأى في ابتسامتهِ، لأنها تنبع من الداخل ومن الأعماق، وهي من تُحيي روحهُ وتُجملهُ، وخصوصًا عندما تكون نقية خارجة من القلب، تراها العين ليشعر بها القلب ويُشعرها للآخر. والابتسامة هي لحن جميل تؤلفها الحياة بكل ما هو مُؤلم ومُفرح فيها ليعزفها الإنسان، وهي روعة الحياة وهي من تُعطي لها صورة جميلة.
لكن حياة الإنسان بتناقضاتها وبنسبيتها في كل ما تحتويه، تتعرض أحيانًا للكثير من الضغوطات والتوترات النفسية، والكثير من المُشكلات الحياتية والتجارب الأليمة والمُحزنة التي تجعلهُ يعيش حالة من التقوقع والانغلاق على النفس والسواد، فتتلاشى الابتسامة والفرحة تدريجيًا من حياتهم وربما تتناسى، وإذا تحدثت معهم لبعض الوقت تراهم ينزعجون ويملون ولا يرغبون بمُواصلة الحديث ويميلون إلى الصمت، من شدة ما تركتْ في داخلهم وأعماقهم أثرها، وتلاحظ على وجههم العبوس والتجهم والنظرات الحادة!
صحيح إن الشدائد تكبل الواحد وتجعلهُ كتائه في طريق لا يعرف مخرجًا لها، ولكن لابدّ من تحكيم العقل والتفكير بعقلانية والتحكم بكل شيء قائم ضد الحياة، حتى لا نجعلهُ يُقيد النفس ويسجنها ضمن دائرتهِ، إلى أن تضيق يومًا بعد يوم وتخنقهُ! وما أحوجنا في أيامنا هذه المضنية إلى ما يرفهُ عن نفوسنْا، وينجليَّ ما تراكم على أعصابنا من هموم وضغط الحياة والعمل، ويجلو الصدأ عن أفكارنا، وعلى المرء أن يحاول مُجاهدا مُتابعة المُسليات والمُضحكات، والخروج للطبيعة لأن فيها الهدوء والسكينة وراحة للنفس وللفكر.
إذن ندعوهم بدعوتنا إلى نبذْ الهموم ورسم البسمة على الشفاه فهي الدواء لكل داءٍ، وإن كنت لا تستطيع فلا تبخل بها على غيرك الذي تلاقيه في دروب الحياة، إن كنت قادراً على منحها، فلا نعرف ظروف الآخرين وقدر همومهم، وهذه البسمة قد تخفف عنهم! ولشعوب العالم أجمع حكم وأمثلة كثيرة تدعو وتحث على الابتسام، منها:" الابتسامة طريقك الأقصر إلى قلوب الآخرين" (حكمة تايلندية)، " أن تشق طريقك بالابتسامة خيرٌ من أن تشقهُ بالسيف" (شكسبير)، " أمسك خبزتك وأطلق عبستك" (من التراث الليبي)، " إذا كنت لا تستطيع الابتسام فلا تفتح دكانًا" (مثل صيني)، " بالابتسام تذلل الصعاب" (شعوب أمريكا)..... الخ.
فهذه دعوات من أناس عاشوا خبرات وتجارب مختلفة وخرجوا منها بهذه الحكم والأمثال، ليُفهموا من بعدهم أن كل يومًا لهُ جديدهُ، والذي يذهب لا يرجع مثلما كان ولا يعود ولا يتكرر! وكل واحدٍ يملك يومهُ وحياتهُ وهو من يعيشها ويضفي عليها الجديد، فبإرادتك وقناعة نفسك تجعلها جنة خالدة أو صحراء قاحلة! فلما لا تبتسم لنفسك ولغيرك وتجتاز همومك، أليسَ بالابتسام تتخلص من كل ما هو مكبوت في دواخلك، وتشعر براحة نفسية؟! وعالمنْا مليء بالكثير من الشخصيات التي رغم صعوبة حياتهم وقسوتها، إلا أنهم يتغلبون عليها بالابتسام وبث الأمل في النفوس وفتح آفاق الحياة لهم ولغيرهم.