سهى بطرس قوجا
الهوس Mania هو طبعًا مرض من الأمراض النفسية الوجدانية الذي يُصيب عاطفة وفكر الإنسان. فيهِ تضطرب الأفكار وتتشتتْ، ويزداد ميلهُ لحبّ التملك، كما ويفقد التوازن والالتزام بالضوابط الاجتماعية وحسن التصرف. وأيضًا لا يقدر الأمور بصورة صحيحة ومُوزونة.
وهوس رغبة التملك هو حبّ التملك المُفرط فيهِ والزائد عن الحدّ، سواء كان للذات أو لشخص ما أو للمال أو للأشياء، بحيث تزداد هذه الرغبة داخلهِ، مُسيطرة عليه. وأغلب هذه الحالات تتولد لدى الإنسان عند وصولهِ إلى مرحلة ما من حياتهِ يفتقد فيها الكثير، مما يولد داخلهُ شعور من الفشل والإحباط والتردد، فيميل أكثر إلى البحث عن الفاني في هذه الدنيا كتعويض على حساب حياتهِ. وهذا ما سنوضحهُ من خلال قصتنا المعروفة والمأخوذة بعض تفاصيلها من كتاب "الهدية" للشيخ الدكتور إبراهيم الحازمي ( 1384 هـ - 1964 م ) ونرويها كالآتي:
في حفلة أقيمت في فرنسا، سأل الصحفيون سؤال لإمرأة: هل أنتِ أغنىّ إمرأة؟! قالت: نعم، أنا أغنى إمرأة في العالم، ولكن في ذات الوقت أتعس إمرأة! أنها "كرستينا أوناسيس" الأسطورة، الفتاة اليونانية أبنة الملياردير اليوناني الشهير (أوناسيس) أثرى أثرياء العالم، صاحب المليارات والأساطيل البحرية والجزر والطائرات. وكرستينا هي الوريثة الوحيدة لوالدها بعد وفاتهِ.
والدتها بعد أن عاشتْ حياة مأساوية انتهت بالطلاق توفيتْ، وبينهما مات أخوها بعدما سقطت به طائرتهِ. ووالدها (أوناسيس) بعد طلاق زوجتهِ، تزوج من (جاكلين) زوجة الرئيس الأمريكي (جون كندي)، تزوجها بملايين الدولارات فقط ليبحث عن الشهرة! أنفق عليها الملايين، ورغم ذلك عاش معها في شقاء دائم وخلافات لا تنتهي إلى أن توفيّ!
عن كرستينا أوناسيس، هذه الفتاة تزوجتْ عدة مرات من عدة دول، باحثة عن السعادة فيهم! أول زواجها كان من رجل أمريكي عاش معها شهورا ثم طلقتْ، وبعد وفاة أبيها تزوجت برجل آخر يوناني وعاش معها شهورا ثم انفصلا كذلك، ثم للمرة الثالثة أرادت أن تجرب حظها فتزوجت روسيًا شيوعيًا! الرأسمالية تلتقي مع الشيوعية؟! كيف هذا؟ تعجب الناس وسألها الصحفيون: أنتِ تمثلين الرأسمالية، فكيف تتزوجين من شيوعي؟! كانت أجابتها: أبحث عن السعادة؟!
سئمتْ من حياة الترف والعيش في قصور، وبعد زواجها من الروسي ذهبت معهُ في بلدهِ في منزل مُتهالك في أحد أحياء موسكو الفقيرة، وكون النظام لا يسمح بأمتلاك أكثر من غرفتين ولا بخدم، فقد جلستْ تخدم في بيتها، طبعًا الصحافة تتابع تحركاتها وأخبارها، فسألوها: هل من الممكن هذا؟! فردتْ: أنا أبحث عن السعادة! ورغم ذلك لم تجد السعادة التي تبحث عنها في زواجها الثالث أيضًا، فقد لاحقها الفشل والتعاسة وعاشتْ مع زوجها الروسي سنة ثم بعدها فارقتهُ!
وأخيرًا تزوجت للمرة الرابعة من رجل فرنسي وأنجبت بنتًا سمتهّا (أثينا)، ثم أنفصلت عنهُ هو الآخر! فتمكن الاكتئاب المُزمن من التوغل إلى أعماقها والحزن الشديد يسيطر عليها! وهكذا قضت حياتها تتزوج وتُطلق علّ وعسىّ أن تجد السعادة التي لا تجدها في كل الثروة والأموال التي تمتلكها، عاشت تعيسة وبعد فترة طويلة وجدوها ميتة في شاليه في الأرجنتين، لا يعرفون هل ماتت ميتة طبيعية أم أنها قتلت أم انتحرت، وكان عمرها آنذاك سبعة وثلاثين عامًا، بعدها دفنت في جزيرة أبيها، تاركة في هذه الدنيا ابنتها أثينا! ماتت كرستينا وهي تبحث عن السعادة والسلام الداخلي ولم تجدهما؟!
وأنت قارئ العزيز، ما هو رأيك: هل السعادة تُمنح؟! هل امتلاك الأموال وجمع المزيد، وحبّ الأشياء مُمكن أن تعوض عن راحة البال أو حتى تملك القليل منها؟! هل الأموال تشتري كل ما هو جميل؟!
بالتأكيد لا ... كل شيء في الحياة لهُ حدود، ويجب أن نرضى بما قُسم لنْا! نعم، المال ضروري ولكن ليس أهم من النفس! فالحياة ليستْ في أمتلاك الأشياء والأموال التي لا روح ولا معنى لها، بل هي في السعادة التي نجدها في داخلنا وفي أعماقنْا، وبكل عمل صالح نقدمهُ للآخرين، ولكن بعض البشر عندما تتمكن أنانيتهم وغرورهم منهم، يقتل تلك السعادة ومعها يقتل كل معنى جميل.
والعالم كل يوم فيهِ الجديد والمثير، فلا تجعل العالم يمتلكك بأشيائهِ ولا تجعلهُ يُغريك بها ولا تسعّى إليها وتُعطيها الأولوية في حياتك، لأنك بسعيك إليها تفتقر أكثر مما تُغنى، وتفقد المحبة من داخلك، التي هي أساس الحياة، وبافتقادك لها تفقدُ معها كل شيء! وليس بالضرورة أن نمتلك كل ما نريدهُ ونرغبهُ، لابدّ أن نكتفي ونرضى بالاكتفاء.