الحاضر
المغزول بخيوط الماضي
سهى بطرس قوجا
هذا الزمان الذي يحمل الكثير والكثير بين
طياتهِ، غالبًا ما نقف فيه مكتوفي الأيدي، سألين أنفسنا: هل نعيش ذكريات الماضي، أم
نعيش حاضرنا ولحظتنا، أم نخطط لمستقبلنا في حاضرنا؟
الحياة كما نعرفها عبارة عن ماضي وحاضر
نعيشهُ ومستقبل مجهول نسعّى لتحقيقهُ من خلالهما. ونعود ونفتح أوراق كتاب حياتنا
ونقرأ فيها كل ما مرّ بها، فنجد فيها ذكرياتنا وما فيها من المؤلم والمُفرح، ومن التشاؤم
والتفاؤل، والنجاح والفشل، وطفولتنا البريئة والجميلة التي نتمنى إن نعود إليها.
حياتنا بمجملها نستذكرها ونبحث فيها، فنجد ما ألمنا ويؤلمنا ويؤثر على نفسيتنا
ونجد فيها ما أسعدنا! أنها لحظات عاشت معنا وسايرت حياتنا، وخطتْ خطواتها مع خطى أقدامنا
حتى أوصلتنا إلى حاضرنا. فهل نتركها لتسكن فينا ومعنا وترجعنا معها ثانية إلى زمان
مضىّ، أم نتركها لزمانها ولا ندعها تتطفل علينا، لكي لا تكبلنا بقيودها، فقط نأخذ
منها العبرة والدرس؟!
الحياة أو حياتنا بمعنى أقرب هي المنحة
والهبة، وقد تكون قد قستْ علينا وآلمتنا كما أفرحتنا، ولكن لحظتنا هي الآن، فلما
نكبل حركتنا بماضي فَانٍ، ماضي كان لهُ لحظتهِ ووقتهِ الخاص؟! وقد يعتقد البعض
بأنني أقول إن نغض النظر عن ماضينا تمامًا ولا نفكر فيه! على العكس تمامًا، الماضي
أساسنا ولا يمكن فصل زمنًا عن زمن وإنسانًا عن إنسان وسنينًا عن سنين، ولولا
ماضينا لمْا كان لنا حاضر وحياة أكثر إشراقًا، ولكن نحن نبحث عن اللحظة التي سرقت
سنيين من العمر وسجنتنا في سجنها وبتنا آسراها.
يتكلم بألم ويسرد قصته قائلا:" لقد كانت
حياتي المقبلة، زهرتي الجميلة التي استنشقت عطرها، محبوبتي الصغيرة البريئة، رأيت
فيها ذاتي، أطفالي، عشقتُ حروف أسمها، دلالها، حنانها، إنسانة بكل معنى الكلمة
هكذا كنتُ أراها، نجمة في السماء تتلألأ وتشع بنورها لتدخل قلبي وتنيره. أحببتها وأحبتني... ذات مرة قالت لي:" أنتَ حياتي وبيتي"،
فأجبتها وقلت لها: أنتِ دنيتي التي بها أعيش. فابتسمت لي وقالت: هل من المُمكن إن
تنساني في يوم من الأيام؟ فنظرتُ إليها بصمت، وأجبتها: هل من المُمكن إن أنسى
أنفاسي، شهيقي وزفيري؟!
بعدها أخذ صاحب القصة نفسًا عميقًا، وتوقف
للحظة وضحك ضحكة مُثقلة بالألم مع قطرات دمع نزلت من عينيه، ثم أكمل قائلاً: ولكن
صدمتي وصمتي كانا أكبر، فليس كل ما يتمناه المرء في الحياة يدركهُ، لم تجعلنا نسعدُ
مع بعض، وهنا كانت مصيبتي، حين سرقها مني القدر والموت، وحملها على جناحيه وطار
بها بعيداً، رحلت وتركتني وحيداً، أعيش في ذكراها، رحلتْ وأخذتْ معها روحي، لا
أعرف لمنْ أعيش من بعدها؟
مسكينًا هو! حبه لم يكتمل ولم يُكتب لهُ
الحياة، تمزق قلبهُ برحيلها ويعيش شعورا من المرارة ممزوجًا بالحزن واليأس والغربة
في داخل نفسه، وضع نفسهُ في سجن قضبانهُ من حديد، بل من صدّى ماضٍ يمنعهُ من العيش
في حاضره، ينتقم من نفسهِ بنفسهِ، ولكن هل ما يفعله هو الصواب؟! بالطبع جوابنا
يكون بالنفي، نعم أنه متألم، ولكن بفعلتهِ هذه يقتل حبيبته مرة أخرى، يقتلها وهي
التي تسكن داخلهِ وأنفاسهِ، يقتل ذكراها التي تركتها في قلبهِ ووجدانهِ!
التمسك بخيوط الماضي والعيش فيه، هو كمنْ شخص
يُمسك بقدميك لمنعك من التواصل والمسيرة، كل إنسان عانى وسيعاني وهذه حال الدنيا،
ولكن تذكر إن المعاناة في النهاية هي مُجرّد اختبار. فلا تجعل هذه المُعاناة
والجروح تتراكم في أعماق نفسكَ، وتثقل كاهلك، بلْ أدفعها خارجًا لكي تتبخر وتتلاشى
وتتضاءل، وأنت وحدك من تستطيع تحديد لحظة تلاشيها.
ونبقى نقول: ماضينا أيام عشناها وسنين
تركناها ولحظات مررنا بها، ولكن هل مرت دون أن تترك أثراً لذكراها؟ هل نسيناها؟ بالطبع:
لا. هذا الماضي هو دافعنا إلى الأمام وهو الصبر والصمود، ومن الصعب التخلص من ذكرى
الماضي وخاصة إذا كانت أليمة، ولكن نستطيع إن نتعلم منها، ونستخدم ما تعلمناه في
تطوير حاضرنا، لأنهُ إذا صادفنا موقف في الحاضر مُشابه لموقف عانينا منهُ في
الماضي، عندها نستطيع إن نتعامل مع الموقف الحاضر بشكل مُختلف.
فعش في حدود اللحظة الراهنة وفكر بكل ما هو
جميل في الحياة. فالماضي لا يعود والمستقبل مجهول، وحاضرنا لهُ لحظتهِ التي نعيشها،
فلمْا لا نزرع الأمل في دروبنا ونحييهِ في قلوبنا، ونعيش لحظتنا.
وصدق ما قالهُ الحكماء بأن الأيام ثلاثة :
أمس: وهو صديق مؤدب، أبقى لك عظة،
وترك فيك عبرة.
واليوم: صديق مودع، أتاك ولم تأته، كان عنك طويل الغيبة، وهو عنك سريع الظعن،
فخذ لنفسك فيهِ.
وغداً: لا تدري ما يحدث الله فيهِ،
أ من أهلهِ أنت أم لا؟!