سهى بطرس هرمز
الجريمة (Crime) لا تقع مرة واحدة، وإنما تمرَّ بمراحل وادوار إلى أن تصل مرحلتها النهاية وهي التنفيذ ووقوع الجريمة، والتي قد ترتكب من طرف شخص واحد بمفرده وأما من طرف شخصين أو أكثر يجمع بينهم اتفاق أو اشتراك قانوني. والمُرتكب للجريمة قد يكون فاعلا أصليًا أو مُشاركًا أو مُساهمًا أو ربما يكون فاعلاً معنويًا.
ولقيام الجريمة لا يكفيها من الناحية القانونية مُجرد تحققها، وإنما لابدّ لمُرتكبها أن يكون مُميزاً ومُدركًا لخطورة الفعل أو الامتناع الذي يصدر منهُ، كما ولابدّ أن يكون كامل الإرادة وغير مُكرهًا على إتيانها حتى يمكن للسلطات المُختصة نسب الواقعة الإجرامية التي ارتكبها عن أدراك وإرادةٍ، إليهِ. وبعكس ذلك فإن مُسألة المُجرم لا تتم كليًا، أما إذا نقص عنده الإدراك أو التميز فأن مسؤوليتهِ لا تنتفي وإنما تكون ناقصة. والمسؤولية الجنائية لا تلحق ألا الذي ارتكب شخصيًا الوقائع المُكونة للجريمة أو التي شارك فيها، وهذا ما يعرف بــ "مبدأ شخصية المسؤولية الجنائية". والجريمة وقت وقوعها تتلخص وقائعها ما بين مُرتكب الجريمة (المُجرم Criminal) وبين من أصابهم ضرراً (الضحية Victim)، ومكان حدوثها (مسرح الجريمة Theatre of Crime).
المُجرم هو لولبْ الجريمة ومُحركها وهو المسؤول الأول عنها حيث سيكون محل انطباق المسؤولية الجنائية عليهِ، لأنهُ هو من يُفكر ويُحضر ويُخطط لها، ثم أما ينفذها أو لا ينفذها اختياريًا أو اضطراريًا. وكما هو معروف "المُجرم بريء حتى تثبت إدانتهِ"، لهذا لا يُعد المُجرم مُجرمًا في نظر القانون ألا إذا قام بالفعل فعلاً وثبتتْ التهمةُ عليهِ بالأدلةِ والبراهين ومن بعدها ينال جزاءهُ العادل الذي يستحقهُ. كما لا يكون المُجرم مسؤولا عن أفعالهِ ألا إذا كان يتمتع بالقدرة على التفكير والإرادة الحرة، ويكون خاليًا من أي عارض من عوارض المسؤولية الجنائية التي تنفي عنهُ الصفة الإجرامية.
من خلال ما قدمنا يمكن إعطاء تعريف مُبسط للمُجرم، وهو أنهُ: شخصًا عُدَّ مُجرمًا في نظر القانون، بسبب انتهاكهِ القانون الجنائي المُقرر من قبل السلطة التشريعية. ويشترط في المُجرم لكي يُوصف بهذه الصفة إضافة إلى صفة الإنسانية، أن يكون أهلاً للمسؤولية، بمعنى أن يكون ذا قوة نفسية من شأنها الخلق والسيطرة وهي ما تسمى بالإرادة التي يجب أن تكون مُعتبرة قانونًا، ومُدركة ومُختارة، ومُتجهة اتجاهًا مُخالفًا للقانون، والمُسماة بــ "الإرادة الآثمة"، التي هي دليل على خطورة شخصية الجاني، الأمر الذي جعلها أساسًا للمسؤولية الجنائية وبالتالي مؤثراً لتوجيه العقوبة إلى أغراضها الاجتماعية. عليهِ كل إنسان اقترف جريمة، وكان أهلاً للمسؤولية حين ذلك، كانت لهُ إرادة مُعتبرة اتجهت اتجاهًا مُخالفًا للقانون. غير أن هنالك معايير تقرر جواز مُعاملة مُرتكب الجريمة كمُجرم وهي:ـــ
1 ـــ السن:ـــ أساس المسؤولية الجنائية هو توافر الإدراك والاختيار لدّى الشخص، ومن الثابت إن الإنسان يُولد فاقد الإدراك، ثم تدريجيًا وبتقدم سنهِ ونضج عقلهِ يتكامل الإدراك لديهِ. ونجد المشرع الجنائي قد حددَّ سنًا مُعينة لمُرتكب الجريمة، ويمنع الصغير من مُسألتهِ جنائيًا قبل أتمامها، تأسيسًا على عدم إدراك الصغير لأهمية العمل الإجرامي وعواقبهِ.
وقد كان قانون العقوبات العراقي إضافة إلى الشريعة الإسلامية الغراء، من ضمن التشريعات العربية التي حددتْ سن بداية المسؤولية الجنائية بتمام سبع سنوات، ومنها: قانون العقوبات الأردني (مادة 94)، واللبناني (مادة 64)، والسوداني (مادة 49) والسوري (مادة 236) والكويتي (مادة 18)، بينما قانون عقوبات البحرين قد حددها بسن تسع سنوات، والقانون التونسي بأقل من ثلاث عشر سنة.
بينما يُلاحظ اغلب التشريعات الحديثة مثلا، كالقانون السوفيتي والقانون الفرنسي، تجعل المسؤولية الجنائية عند سن الثالثة عشر. وبغض النظر عن القوانين الجنائية، نجد إن مُرتكبي الجريمة من الأطفال لابد وأن يتخذوا بحقهم الإجراءات التربوية الضرورية اللازمة لمصلحتهم، بسبب عجز أولياءهم عن تهذيبهم وتقويمهم وتوجيههم التوجيه الصائب في الحياة، وهناك من الأطفال من يتم توديعهم في مركز للأحداث بما يعود عليهم بالنفع والفائدة والإصلاح.
2 ـــ الأفعال الإجرامية لابد وأن تكون اختيارية، وارتكبت بدون ضغوط أو إكراه. وهذا الإكراه يجب أن يكون واضحًا ومُتصلاً اتصالاً مُباشراً بالفعل الإجرامي المُعين، فمثلاً أن تأثير الآباء أو أصدقاء السوء الغير مباشر والقديم على مُرتكب الجريمة لا يعترف بها على أنها ضغوط مارست عليهِ.
3 ـــ يجب أن يكون الفعل مُصنفًا قانونًا كضرر للدولة وليس ضرر خاص أو خطأ ما، لأنهُ عادة يقوم الناس بمُعالجة بعض الأمور بينهم وبين نفسهم دون الرجوع إلى السلطات المختصة، والتي من الممكن أن تتطور وتصبح مشكلة كبيرة لا يمكن تحجيمها، وبها يتضرر العديد من الأشخاص والمُمتلكات، والتي كان من المُمكن اجتنابها برفع دعوى خاصة للمحكمة أو لمركز الشرطة ليقوموا هم بمُعالجتها.
أساس المسؤولية الجنائية (بين الحتمية والحرية):
أثار بحث الأساس التي تقوم عليهِ المسؤولية الجنائية اختلافًا كبيرا بين رجال الفقه الجنائي، وكان اختلافهم في هذا يرجع إلى أن الإنسان عند ارتكابهِ جريمتهِ، هل هو مُخير أم مُسير؟! وفي هذا الصددّ يوجد مذهبان أساسيان ومذاهب أخرى توفيقية وسطية بينهما، الأول: المذهب التقليدي أو النظرية التقليدية، يُبين المسؤولية على أساس حرية الإنسان في الاختيار، والثاني: وضعي، يبني المسؤولية الجنائية على أساس الخطورة الإجرامية للمُجرم.
1 ـــ المذهب التقليدي:
هذا المذهب هو الأقدم، ويرى أنصاره إن الإنسان يملك حرية تقدير أعمالهِ المُختلفة، فكل إنسان بالغ وعاقل يستطيع التمييز بين المُباح والمحظور من الأعمال، كما بإمكانهِ أن يختار بين مُختلف السُبل التي تعرض له ما يشاء دون أن يكون مُجبرا إلى سلوك سبيل معين، أي أنهُ يستطيع التحكم في سلوكهِ فلا يأتي من الأفعال ألا ما يريد، وبهذا فأنهُ يُسأل عما يقع منهُ ويتحمل تبعيتهِ.
وحسب هذا المذهب فأنهُ إذا ارتكب شخص ما جريمة، فأنها تكون راجعة إلى محض اختياره الشخصي، لأنهُ كان من المُمكن وبإرادتهِ ألا يرتكبها، ومن اجل ذلك يكون مسؤولا عنها أدبيًا ما دام قد لجأ إلى طريق الشر باختياره. ولذلك قال أصحاب هذا المذهب أن المسؤولية الجنائية أنما تقوم على المسؤولية الأدبية أو الأخلاقية، وهذه لا تقوم ألا إذا توافر شرطان هما الاختيار (الحرية)، والإدراك (التمييز). وبالتالي إذا فقدَ الإنسان إدراكهِ لعاهةٍ في عقلهِ أو بسبب صغره أو فقدهِ لاختياره لإكراههِ على عمل ما، فأن المسؤولية الجنائية تزول. فأن ضعف إدراكهِ بغير أن ينعدم أو تتأثر إرادتهِ إلى ما دون الإكراهِ، وجبَّ أن يُراعى ذلك عند تقدير مسؤوليتهِ.
2 ــــ المذهب الوضعي أو (مذهب الجبرية):
يقول "جارو فالو" أحد أقطاب المدرسة الوضعية بأنهُ:" لا تستطيع أن تبني قانونيًا، العقاب على أساس المسؤولية الأخلاقية، فإرادة الفرد تخضع وعلى الدوام لمؤثرات داخلية وخارجية". لهذا ترى المدرسة الوضعية أن المسؤولية الجنائية لا تقوم على أساس أخلاقي أو أدبي، لأن الإنسان مُسير وليس مُخير. أي أن أعمال الإنسان حسب اعتقادهم ليست وليدة أرادة حرة، كونهُ يقوم بأفعالهِ بمحض إرادتهِ ألا إنها في الواقع ليست حرة وإنما تتكيف تبعا للمؤثرات الأقوى من بين العوامل التي تحيط به وتكيف تصرفاته، منها ما هو كامن في شخصهِ والذي يرجع إلى تركيبتهِ وتكوينهِ ومزاجهِ الخاص، أو ما ورثهُ عن أسلافهِ من طباع وميول، ومنها ما هو اجتماعي يرجع إلى البيئة والوسط الذي يعيش فيه.
ويلخص الفقيه "أنريكو فري" موقف المدرسة الوضعية بقولهِ:" أن المدرسة الوضعية تنكر حرية الاختيار، فإذن هي تنكر المسؤولية الأدبية وفكرة الإثم والاستناد المعنوي، ولا تهتم ألا بـ "الإنسان الفيزيائي المادي" الذي تترتب عليه المسؤولية الجنائية.
فمذهب الوضعية يرفض قيام المسؤولية الجنائية على أساس المسؤولية الأدبية، وبالتالي يرفض كون العقوبة للتكفير عن الذنب ولتحقيق العدالة ويقول أنها مسؤولية اجتماعية تقوم على الخطورة الإجرامية التي يمثلها الجاني والتي تستلزم التدخل لمنع الإجرام، وتكون العقوبة فيها وسيلة تدافع بها الجماعة عن نفسها ضد الجريمة. فكما إن وقوع الجريمة محتوم على الجاني، فكذلك يكون ردة الفعل الناتج عنها وهو وقوع العقوبة محتومًا على الجماعة دفاعًا عن نفسها.
وأمام هذه الآراء المُتعارضة حول أساس المسؤولية الجنائية، عملت المدارس الوسيطة على تجنب الخلاف بين المدرستين. ومن المُسلم به أن كلا المذهبين أنما ينطوي على جانب من الحقيقة، غير أنهما يُعيبهما التطرف في الرأي والمُغالاة في الحكم.
والتوفيق بين المذهبين هو أمر مُمكن التحقيق، وذلك عن طريق قيام المسؤولية الجنائية على أساس من حرية الاختيار متتبعة العقوبة كجزاء، فأن لم يكن لهذه المسؤولية محل، لأن مُرتكب الجريمة غير مسؤول، فمن المفروض أن تتخذ قبلهُ التدابير الاحترازية لمواجهة خطورتهِ. أما إذا خففت العقوبة لأن مرتكب الجريمة مسؤول مسؤولية مُخففة، فبالإمكان أن تكمل العقوبة بالتدبير الاحترازي أيضا على النحو الذي يواجه عجز العقوبة عن مواجهة الحالة الخطرة لدى الجاني.
الخاتمة:
المسؤولية الجنائية لكي تتحقق لابد من حدوث واقعة توجبها أي حدوث جريمة وتمامها وتكون مُستوفية لأركانها. أي إن الإنسان لا يقع تحت وطأة تحمل المسؤولية الجنائية ولا تقوم في حقهِ ألا إذا ارتكب فعلاً مُحرمًا في القانون والمجتمع، وهو بالغ وعاقل ومُدرك خطورة فعلتهِ وبكامل إرادتهِ وباختياره، مما يجعلهُ في النهاية يتحمل قصوره وفعلتهِ بحق نفسهِ أولاً وبحق مُجتمعهِ ويستحق العقاب المُقرر في القانون، كلٌ وحسب فعلتهِ وجريمتهِ.
No comments:
Post a Comment